لماذا تعد معرفة الذات أمرًا عظيمًا؟

د. إرادة حمد


لماذا تعد معرفة الذات أمرًا عظيمًا؟

خمسة أسباب تجعل من فهمنا لأنفسنا أمرا جوهريًا للنمو النفسي:


أصبح مبدأ "اعرف ذاتك" موجودا في كل مكان لدرجة أنه أصبح من كليشيهات التنمية الشخصية. لكن معرفة أنفسنا - فهم من نحن حقا - ليس بالأمر السهل في أي حال من الأحوال. عرف الإغريق القدماء هذا جيدًا ونحتوا أعلى بوابة معبد أبولو

في المتحف الأثري في دلفي (في اليونان القديمة) شعارهم المأثور " اعرف نفسك Know Thyself". كما ذهب الفيلسوف الإغريقي سقراط Socrates (470-399 قبل الميلاد) إلى أبعد من ذلك في شرحه للمعاني الضمنية لهذا الشعار حين فسره بأن الحياة بلا معنى لا تستحق أن تعاش “The unexamined life is not worth living” . كما أنه أكد بشكل كبير على صحة قول أننا إذا ما بقينا في المنطقة المظلمة حول طبائعنا ونقاط قوتنا وضعفنا الحقيقية وقيمنا وآمالنا في المستقبل، فسوف نجد صعوبة بالغة في العيش في حياة متكاملة ومرضية. والأهم من ذلك كله، أننا سوف نفتقر إلى التحكم في ذواتنا إذا لم نفهم دوافعنا ومخاوفنا الأساسية، وسوف نواجه عواطفنا مثل المراكب الشراعية التي تنجرف بلا حول و لا قوة في بحر متقلب محكومين بقوى تظل مبهمة بالنسبة لنا و لن نتمكن حينها من الإبحار نحو الشاطئ.


كيف يمكننا اكتساب أفضل شكل من أشكال معرفة الذات؟


أولًا: تحليل العمليات الذهنية في الوقت الحاضر.

 قبل كل شيء، يمكننا وبشكل عقلاني تحليل عملياتنا الذهنية. ستعطينا أساليب العلاج الذهني السلوكي (اختصاره CBT وهو نوع من أنواع العلاج النفسي الأكثر شيوعا لعلاج الكثير من الاضطرابات النفسية و المعتمد على فهم الأفكار و المشاعر المؤثرة في السلوك) مؤشرا جيدا لأفكارنا السلبية المتكررة والمجالات التي قد تتشوه فيها إدراكاتنا. كما تعتبر التقنيات المستندة إلى التأمل الإيعائي (أو المعروف باليقظة الذهنية) مفيدة بشكل خاص لشحذ ذكائنا العاطفي ولملاحظة ردود أفعالنا العاطفية دون أن نجعلها جل اهتمامنا. يعرف عالم النفس دانييل جولمان Daniel Goleman الذكاء العاطفي كشكل من أشكال الوعي ما فوق الذهني (أو المعروف بالتفكير ما وراء المعرفي) الذي يتجلى في "التعرف على الشعور وقت حدوثه"، كما أضاف "أن عدم القدرة على ملاحظة مشاعرنا الحقيقية يتركنا تحت رحمتها". و هناك فرق جوهري بين مجرد الانغماس في الشعور وتطوير الوعي بأننا مغمورون في ذلك الشعور. لذا فإن الملاحظة الذاتية الموضوعية أمر حاسم لمعرفة ذواتنا ذهنيا و عاطفيًا.


ثانيًا: فهم خبرات الماضي.

كما يمكننا أيضا أن نسافر إلى الماضي للقيام ببعض أعمال البحث في الوجود، من أجل أن نفهم كيف يمكن لخبراتنا الماضية أن تشكل ردود أفعالنا في الوقت الحاضر. يصف الأب و المؤسس للتحليل النفسي سيجموند فرويد Sigmund Freud عقلنا بأنه كالجبل الجليدي جزء صغير منه فقط يقع فوق سطح الماء، بينما ينزاح الباقي في الأعماق الغامضة للاوعي. فقط عندما نخرج أحلك مخاوفنا ورغباتنا لنراها في ضوء العقل الواعي، حيث يمكننا فحصها و تحليلها بهدوء، ستبدأ في فقدان بشاعتها والكثير من نفوذها. ما لا نعرفه بوعي - المكبوت - هو "الآخر" الحقيقي لمعرفة الذات الأصيلة.


ثالثًا: معرفة نوع شخصياتنا.

وللحصول على فهم أساسي لطبائعنا ونقاط قوتنا و ضعفنا الحقيقية، يمكننا أيضا دراسة النظريات التي تحدد نوع الشخصية و إجراء اختبارات القياس النفسي. يمكن أيضا إرجاع فكرة إمكانية تصنيفنا وفقا لأمزجتنا (مذهب الأخلاط أو المزاجات الأربعة) إلى اليونان القديمة، وبشكل أدق إلى الطبيب أبقراط Hippocrates (حوالي 460-370 قبل الميلاد) . ولايزال بإمكاننا الشعور بانعكاسات تصنيف أبقراط اليوم في اختبارات الشخصية المستوحاة من دراسات العالم يونج مثل مؤشرات اختبار مايرز بريجز لأنماط الشخصية (اختصاره MBTI) و التحليل المتعمق للملفات الشخصية Insights Discovery Personal Profiles، على سبيل المثال: يمكن أن تكون هذه الاختبارات للشخصية نقاط انطلاق (و ليست نتائج معتمدة كليا) في سعينا إلى معرفة الذات، ومساعدتنا على فهم ميولنا و إمكاناتنا الطبيعية، والإشارة إلى المجالات التي قد نرغب في تطويرها أكثر.

أخيرا، يمكننا بالطبع الاستعانة بآخرين، مثل المعالجين والمحللين والمدربين، في سعينا لفهم ماضينا وحاضرنا بشكل أفضل. من خلال العمل مع التحويل أو طرح الأسئلة الصعبة التي تشجعنا على عرض مشاكلنا من منظور جديد، حيث يمكنهم تحويل رواياتنا السلبية عن أنفسنا إلى أخرى أكثر لطفا و إنتاجية.



لكن يبقى السؤال الحاسم: لماذا يجب أن نتطلع إلى معرفة الذات في المقام الأول؟


هناك خمسة أسباب رئيسية:

1- ترتبط معرفة الذات بشكل مباشر بأحد حاجاتنا الأساسية، الرغبة في التعلم واستيعاب تجاربنا.

وهذا يشمل الحصول على أكبر قدر ممكن من المعرفة حول أنماطنا وتفضيلاتنا وعملياتنا الخاصة. كما هو الحال في المجالات الأخرى، كلما فهمنا شيئا كان بإمكاننا إتقانه بشكل أفضل. ومن لا يريد أن يكون بارعا في عقر داره؟

2- عكس المعرفة بالذات هو الجهل بها - من نحن حقا ودوافعنا الحقيقية، وأنماطنا العميقة، وكيف نتعامل معها.

إن معرفة الذات تمنع الخلاف بين إدراكنا لذواتنا وكيف ينظر الآخرون إلينا. يمكن أن تكون التقييمات الوهمية لمهاراتنا وصفاتنا، في شكل "جهل غير معترف به" سببًا لإحراج شديد عندما لا يتم كشفها. إذا كان إدراكنا لأنفسنا يعتمد على أسس غير سليمة، فسوف نستثمر الكثير من طاقتنا في الدفاع عن صورتنا الذاتية ضد خطر التنافر الذهني (التنافر الناجم عن تعارض الأفكار). لأن لدينا الكثير لنخبئه، والكثير لنخسره، و سنجد صعوبة في التواصل مع الآخرين بشكل أصيل ومنفتح.

3- كما يقول فرويد Freud بأن معرفة الذات تحررنا من كوننا عبيدا لعقلنا اللاواعي و العديد من النزوات التي تبدو غير عقلانية. فقط عندما نعرف أنماطنا، ومن أين أتت، يمكننا إدارتها بفعالية. إن فهم تاريخنا يمنعنا من التكرار الأعمى لأنماط الماضي غير المنتجة. يمكن أن يؤدي فهم الماضي أيضا إلى رؤية أكثر لطفا ورأفة لما قد نعتبره إخفاقاتنا.

4- بشكل حاسم، تمكننا معرفة الذات من أن نكون أكثر استباقية في الاستجابة للأحداث الخارجية. إذا كنا نعرف حقا أنماطنا ومحفزاتنا و ملذاتنا و إذا ما كان لدينا الذكاء العاطفي للتعرف على مشاعرنا عند حدوثها فإننا سنكون أقل عرضة لتكون مهيمنة علينا.

5- وأخيرا، فإن معرفة الذات هي أيضا الخطوة الأولى الضرورية لبدء التغيير الإيجابي. من خلال التقييم فقط و بطريقة موضوعية قدر الإمكان يمكننا تخطيط ما نريد تغييره والعمل على تحقيقه.

ومن خلال جميع ما ذكر، فإن معرفة الذات ببساطة تعمل على تحسين فرصنا في اتخاذ خيارات أكثر حكمة. إنها تحولنا إلى متحكمين أفضل في حياتنا، مما يؤدي إلى الإتقان والواقعية، بالإضافة إلى التطابق والمواءمة. كما سيجعلنا أكثر تواضعا. لأنه كما وضح سقراط جيدا، فإن جزءا حيويًا من معرفة الذات هو أيضا معرفة ما لا نعرفه والاعتراف علانية بجهلنا.




-المقال مترجم (بتصرف) عن:

Schaffner, A. (2020, May 25). What’s so great about self-knowledge:5 reasons why understanding ourselves is essential for psychological growth. Psychology Today. https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-art-self improvement/202005/whats-so-great-about-self-knowledge

 

-تم الحصول على إذن الترجمة والنشر باللغة العربية من صاحبة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية

Anna Katharina Schaffner, Ph.D 


ترجمة: رنا الرفاعي، رغد السلمي، ابتهال السلمي، هويدا قاري

مراجعة وتحرير (بتصرف): د. إرادة حمد


إضافة للسلة